رؤية إسلامية في الإدارة التربوية

 د. محمـد سليم العـوا

 

لا ريب أن أكثرنا قد قرأ النظريات الحديثة- أو ما يسمى كذلك- في الإدارة، وفي الإدارة التربوية بوجه خاص. ولا شك أن كثيراً منا قد وقف في أثناء دراسته الجامعية يقلب التعاريف المستوردة من الولايات المتحدة بوجه خاص، ويوازن بين النظريات التي روجها الأساتذة الجامعيون هناك يحاول أن يجد بينها، اختياراً أو جمعاً وتوفيقاً، تعبيراً عما يراه في حياته التعليمية أو ما يرشد إلى ما يحب أن يراه واقعاً فيها.
ولكن الأمر المشكوك فيه هو أن يكون العائد العملي من تلك النظريات والدروس والموازنة مكافئاً للوقت الذي أنفق فيها وللجهد الذي بذل وللتوقع الأول الذي تولده لحظة الانبهار بالصياغة الأنيقة الظاهرة الإحكام.
أن الإدارة فطرة، أعطيت للناس جميعاً وأن النجاح أو الإخفاق فيها تحكمهما عوامل لا تحصى ليس من بينها -قطعاً- إنفاق الأعمار في درس كتب الإدارة ونظريات مؤلفيها، فما هؤلاء إلا أشبه شيء بالمصورين يحاولون نقل صورة الطبيعة أو الحيوان أو الإنسان إلى ورق أو قماش، وهي صورة قد تكون دقيقة فتصف تفاصيل كثيرة، ولكنها تصفها فقط، لا تصنعها من عند نفسها، ولا توجدها من العدم وإنما تدل على وجودها أو تلفت الانتباه إليها، ولا فضل لها فوق ذلك ولا بعده.
الإدارة ..إرادة!
الإدارة فطرة لأن كل إنسان يمارسها، بل لعل كل مخلوق «متحرك» يمارسها: إن الحركة قرار يصدر عن إرادة، والسكون قرار يصدر عن إرادة، والكلام والصمت، والرضا والغضب والقبول والرفض كل أولئك كذلك. والإرادة هي التي تقوم بإدارة نشاط الإنسان كله، في خاصة شأنه وفي علاقته بغيره، فكيف نستطيع تصور نشاط إنساني بلا إدارة؟ ولكل نشاط إنساني- عاقل- هدف يسعى الناشط إلى تحقيقه، والإدارة هي محاولة تنظيم هذا النشاط الإنساني العاقل لتحقيق الأهداف التي قررتها «الإرادة» الإنسانية، وتنجح الإدارة- أو تعتبر كذلك- بمقدار ما تحقق من أهداف النشاط الذي تقوم عليه.
ولأن الإدارة عمل إنساني يتم بالإنسان ويتم لصالحه، فإن بناء الإنسان وصقل خبراته وتمكينه من الاعتماد على مكنون قدراته وطاقاته هو واحد من الأهداف التي ترمي إليها إدارة الموارد البشرية وتسعى إلى تحقيقها مؤسسات الصناعة الإنسانية وعلى رأسها مؤسسات التعليم والتدريب. أليس الفرد -حتى في خاصة نفسه- يمارس الإدارة كل لحظة من لحظات حياته تخطيطاً وتنفيذاً ومراجعة وتقويماً، ويتحمل نتائج هذه الإدارة وتبعاتها، إن خيراً فخير يجنيه، وإن سوءاً وشراً فمثلهما يناله؟ وإذا كانت الإدارة التنافسية- القائمة على تطبيق نموذج الإدارة الصناعية الأمريكي- تهتم فيها كل مؤسسة بذاتها، وتحاول أن تجيد عملها لتحقيق أعظم فائدة ممكنة منه، ويسرها إخفاق المنافسين بقدر ما يسرها نجاحها، فإن الإدارة المعنية بالإنسان لا تدار بهذا التوجه ولا تحكمها هذه الروح ولكنها تدار بروح الرسالة التي ترمي إلى تحقيق الخير للناس كافة، والمشاركة في المنافع بين البشر جميعاً، وتستشعر أن نجاح الواحد نجاح للمجموع.

التعليم ..ثقافي
وحين نحاول تطبيق هذه الفكرة على إدارة مؤسسات التعليم، أو المؤسسات المعنية بالصناعة البشرية بوجه عام، فإننا نبدأ وننتهي من حقيقة يدافع عنها بحرارة أحد أعلام التربية العرب المعاصرين- الدكتور أحمد المهدي- الذي يرى التعليم نسقاً ثقافياً يحرص القائمون عليه على أمرين متلازمين: أولهما، نقل الذاتية الثقافية للمجتمع- وهي التي تميزه عن غيره من المجتمعات- من جيل إلى جيل. وثانيهما، تجديد المتغيرات الثقافية في المجتمع وفقاً للتحديات التي يفرضها التطور العلمي والتكنولوجي والتقدم في مجال المعلومات والتواصل البشري. والمقصود بالمتغيرات الأساليب والوسائل والتقنيات التي تطبق في الحياة اليومية، والمقصود بالذاتية الثقافية الثوابت المميزة للأمة وأهمها القيم الدينية والخلقية والاجتماعية، ولغة المجتمع، التي هي وعاء ثقافته وأداة بقائها وتناقلها من السلف إلى الخلف.
ولأن التعليم نسق ثقافي فإن أهم ما ينبغي أن تتجه الإدارة التربوية إليه هو تأصيل الذاتية الثقافية. فالثقافة- وهي مزية اختص بها الإنسان عن سائر الخلق بما أودعه الله فيه من قدرة على التفكير والإدراك والنظر والتذكير والتحليل والتعليل والتفسير والتجريد والتوقع والتخطيط والتواصل مع الآخرين والاعتماد المتبادل على الغير...إلخ-الثقافة بهذا الاعتبار تؤدي دوراً جامعاً تطبع به المنتمين إليها بطابع واحد أو بطابع متقارب، وتؤدي دوراً فارقاً يتمثل في تمايز أبناء كل ثقافة عن أبناء الثقافات الأخرى. والثقافة مفهوم تجريدي يستدل عليه بما هو كائن في عقول أبنائها من تصور للكون وخالقه، وللحياة وغايتها، ولمكانة الإنسان ودوره فيها، وما هو مستقر في وجدانهم من معتقدات وقيم، وما يقدمونه للإنسانية من ألوان المشاركة الفكرية والإبداع الفني والجمال.
والنظام التربوي والتعليمي هو الوسيلة الأساسية لكل مجتمع إنساني للحفاظ على ذاتيته الثقافية أو هويته، واستمرار وجوده وتواصل أجياله، وهو الذي يؤدي الدور الجامع للثقافة فينشئ في نفوس المتلقين شعوراً عميقاً حقيقياً بالانتماء والوحدة، واستعداداً يبلغ إلى حد بذل الروح، في سخاء وصدق، للحفاظ على هذا المجتمع وحماية حقوقه والذود عن قيمه وحمل رسالته إلى الناس في غير استعلاء بغيض أو تحيز ممقوت.
والمحافظة على الذات الثقافية وتأصيلها يعني التوازن في النظر إلى الثقافة الخاصة وإلى الثقافات الأخرى. وهذا التوازن يقتضي انتفاء التبعية الثقافية، وانتفاء الانبهار الثقافي الدافع إلى المحاكاة والتقليد، وهو يعني في الوقت نفسه ألا تنغلق ثقافة ما على نفسها، فترفض التعامل مع الثقافات الأخرى، وتفتتن بحاضرها أو ماضيها فتديم النظر إلى نفسها وتتجاهل ما سواها.
وليس من المناسب الفصل في القول في خصائص الثقافة العربية الإسلامية التي ننتمي إليها ونعتز بالانخراط في سلك المرابطين على ثغورها، فلذلك مقام آخر، ولكنني أريد أن أنتقل من تحديد هدف الإدارة التربوية المتمثل في تأصيل ثوابت الذات الثقافية من ناحية وتطوير متغيراتها ووسائل تعبيرها عن نفسها من ناحية أخرى، إلى خصائص التربية الإسلامية وسماتها الأساسية. وليس المقصود هنا هو المقرر الدراسي المعروف بذلك الاسم (التربية الإسلامية) ولكن المقصود هو الفكرة التربوية الإسلامية التي تبنى عليها المناهج كافة وتتغيا تحقيقها الأساليب والوسائل جميعاً.

الإيمان أولاً وأخيرًا
ولعل الخصيصة الأولى لهذه الفكرة التربوية أنها تقوم على الإيمان. والإيمان فيها ممتد ليجعل الحياة كلها رحلة عبادة خالصة لله تبارك وتعالى، إن الإيمان الموصوف في الحديث الصحيح بأنه «الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره من الله»، هذا الإيمان يقوم على نظرة شاملة إلى الكون والحياة والإنسان، أساسها الوحدة الجامعة بين الناس وما يكون في دنياهم كلها، وهي أن الخلق والأحداث والوقائع كلها ترتبط بإرادة الله وحده، وهو ما يجعل صلة الإنسان بالكون في ثقافتنا الإسلامية صلة سلام وأمن وانسجام، لا صلة صراع وقلق وضياع، فالإنسان في الثقافة الإسلامية يستفيد مما سخره الله له من خلقه كله {خلق لكم ما في الأرض جميعاً} {ألم تر أن الله سخّر لكم ما في الأرض} {ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض} {وسخّر لكم الليل والنهار والشمس والقمر} {وسخّر لكم الأنهار} {وهو الذي سخّر البحر لتأكلوا منه لحماً طرياً} .
وهذا المفهوم الإسلامي ينفي فكرة «صراع» الإنسان ضد الطبيعة في محاولة مستمرة «لقهرها» فهما ليسا عدوين ولكنهما مخلوقان لله يشتركان في الخضوع لنواميسه التي يعبر القرآن عنها بالتسبيح {وإن من شيء إلا يسبح بحمده} وهذا الشعور يقود الإنسان إلى شعور بالسلام النفسي والسكينة القلبية والاطمئنان إلى رعاية الله له {ومن يؤمن بالله يهد قلبه}.

تكاملية المنفعة
والخصيصة الثانية للفكرة التربوية في الإسلام أنها تكاملية، تعامل الإنسان في نواحيه الروحية والعقلية والجسمية في تكامل ودون تمييز، وهي تهتم بصفاء الروح ونقائها دون أن تبيح العزلة والرهبانية والانزواء، بل تجعل «خير الناس أنفعهم للناس» وأحب الخلق إلى الله «أنفعهم لعياله» أي للبشر الآخرين، وتوصي بالخلق خيراً: الجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل حتى يظن النبيص من كثرة الوصية بالجار أنه سيكون له في الميراث نصيب « مازال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه» ولا يدرك حقيقة الإيمان إلا العقلاء أولو الألباب {إنما يتذكر أولو الألباب} (والقرآن يذكر أولي الألباب في سياقات مماثلة ست عشرة مرة في سوره المكية والمدنية على السواء).
والإيمان خصيصة التربية الإسلامية الأولى- لا يتعزز إلا بالعقل والنظر{فلينظر الإنسان مما خلق} {أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت، وإلى السماء كيف رفعت، وإلى الجبال كيف نصبت، وإلى الأرض كيف سطحت}.

البحث الجاد
والخصيصة الثالثة لهذه التربية أنها ترفض الظن والتخمين وتعلم البحث عن الدليل وتطالب به {وآية لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حباً فمنه يأكلون، وجعلنا فيها جنات من نخيل وأعناب وفجرنا فيها من العيون، ليأكلوا من ثمره وما عملته أيديهم، أفلا يشكرون، سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون}. فإذا كان القرآن الكريم يقدم الأدلة على هذا النحو على وجود الخالق وقدرته فليس غريباً أن يلوم الذين يقوم جدالهم ودعاواهم على محض الظن {وما يتبع أكثرهم إلا ظناً، إن الظن لا يغني من الحق شيئاً، إن الله عليم بما يفعلون} {قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين}، وأن يثرّب على المتكلمين فيما لا يعلمون والمتبعين ما يجهلون {ولا تقف ما ليس لك له به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً}.
والتربية الإسلامية تأثراً بهاتين الخصيصتين تأمر بمراعاة المستوى العقلي للمتعلم فيروي البخاري عن رسول الله ص قوله: «حدثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يُكذب الله ورسوله»، وترجم البخاري لهذا الحديث بعنوان «من خص بالعلم قوماً دون آخرين كراهة ألا يفهموا». ويروي مسلم في صحيحه عنه عليه الصلاة والسلام قوله «ما أنت بمحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة».
وهي تربية تأمر بالإجادة والإتقان، ولا تكتفي بالأداء كيفما كان: «إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه» و«إن الله يحب من العامل إذا عمل أن يحسن» (أخرجهما السيوطي في الجامع الصغير، وصححهما المناوي والألباني)، وهذا الحب ليس أمراً معنوياً يُرغَّب فيه ولا يحاسب عليه، بل هو المراقبة الربانية والجزاء المترتب عليها {فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره} {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى، وأن سعيه سوف يرى ثم يجزاه الجزاء الأوفى}.

استمرارية المعرفة وتواصلها
والخصيصة الرابعة للفكرة التربوية الإسلامية أنها مستمرة تصاحب المرء في رحلة حياته كلها، وأنها عامة تشمل بواجبي التعليم والتعلم المجتمع كله. فبرهان الدين الزرنوجي يحدد وقت طلب العلم بأنه «من المهد إلى اللحد» ويضرب المثل بالفقيه الحنفي الشهير «الحسن بن زياد اللؤلؤي» الذي يقولون إنه بدأ طلب العلم على يد أبي حنيفة وهو ابن ثمانين سنة! وتقرير القرآن الكريم أن {وفوق كل ذي علم عليم}، وأن المعرفة البشرية كلها قليلة {وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً} ومطالبته للمؤمن أن يسأل الله دائماً الزيادة من العلم {وقل رب زدني علماً} كل ذلك يؤكد أن المعرفة الإنسانية لا تتوقف عند حد، وأن على المسلم أن يسعى إلى مواصلة تحصيلها طول حياته.
ويتجلى عموم واجبي التعليم والتعلم في قول الرسول ص: «ما بال أقوام لا يفقهون جيرانهم ولا يعلمونهم ولا يعظونهم ولا ينهونهم؟! وما بال أقوام لا يتعلمون من جيرانهم ولا يتفقهون ولا يتعظون؟! والله ليعلمن قوم جيرانهم ويفقهونهم ويعظونهم ويأمرونهم، وليتعلمن قوم من جيرانهم ويتعظون أو لأعاجلنهم بالعقوبة». وقد علم هؤلاء المقصرون بما قاله رسول الله ص، فهرعوا إليه يعتذرون، فأمهلهم سنة ليفقهوا جيرانهم ويعلموهم.
وقد اشتد نكير الرسول ص على هؤلاء المقصرين حتى قرأ عليهم -حين أتوه- قول الله تبارك وتعالى {لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم، ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون}. وفي الحديث الذي رواه البخاري أن ثلاثة لهم أجران، منهم «رجل كانت عنده أمة فأدبها فأحسـن تأديبها، وعلمها فأحسن تعليمها».
أخلاقيات الخلافة في الأرض
والخصيصة الخامسة للفكرة التربوية الإسلامية أنها ترسي أخلاقيات العمران والتنمية، فالإنسان خليفة في الأرض {إني جاعل في الأرض خليفة} وهو مستخلف في الأرض ليعمرها ومسؤول عما يقوم به فيها {هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها فاستغفروه ثم توبوا إليه إن ربي قريب مجيب} {وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه} والإنسان مطالب -لذلك- بعدم الإسراف {ولا تسرفوا} {ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوماً محسوراً} والمبذرون {كانوا إخوان الشياطين، وكان الشيطان لربه كفوراً}. وليست هذه المسؤولية مقصورة على الثروة المادية وحدها، بل هي تشمل الحياة كلها، «لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع : عن عمره فيم أفناه وعن علمه ما فعل فيه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن جسمه فيم أبلاه». (رواه الترمذي وصححه وأخرجه الألباني في صحيح الجامع الصغير رقم 7300).

الاعتدال والوسطية
والخصيصة السادسة للفكرة التربوية الإسلامية أنها تقوم على التوازن والاعتدال والوسطية، فكل طاقة منحها الله للإنسان تعطى حقها دون أن تجور على غيرها أو تكلف فوق وسعها {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها} {وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً}.
والتوازن- كما يقول الدكتور يوسف عبدالمعطي- صار سمة الشخصية الإسلامية يراعيه المربي في شمول عنايته بجوانب الإنسان كافة. ويمتد من المحتوى إلى الطريقة فلا هي بالعنيفة القاسية ولا هي بالفوضى المتسيبة، بل هي ترمي إلى أن يقيم الإنسان ميزانه الخاص ومراقبته الداخلية بتقوى الله عز وجل فيحفظ حقوق الآخرين كما يحفظ حقوق نفسه، ويقيم شؤون دنياه كما يحرص على سلامة آخرته، فالتوازن والوسطية سمة ملازمة للمسلم الحق في عمله الدنيوي والآخروي على سواء.
هذه الفكرة التربوية الإسلامية ليست وليدة البحث العلمي الحديث، ولا هي من مكتشفات المفكرين التربويين الإسلاميين المعاصرين، وإنما هي في حقيقتها الصناعية النبوية التي ربى بها محمد ص أصحابه، وأدار بها حياتهم في ثلاث وعشرين سنة، هي عمر البعثة المحمدية المباركة. فكيف صنع النبي ذلك، وأي سبيل سلكه إلى تحقيق وجود «خير أمة أخرجت للناس»؟
إن الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وصف سر البعثة بقول تعالى : {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} ووصف كتابه المنزل عليه بأنه {هدى ورحمة} وبأنه {شفاء ورحمة للمؤمنين} ونفى عنه الفظاظة وغلظة القلب {ولو كنت فظاً غليظ القلب لا نفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر}. ومن هذه الأوصاف اشتقت التربية النبوية منهجها. وقد استخلص الفقهاء من هذا المنهج معالم يعرفها قراء الفقه الموروث تحت عنوان «حقوق الأبناء على الآباء» و«على المعلمين» والعنونة بالحقوق ذات دلالة خاصة، إذ مسائل التربية ليست مجرد أفعال وأقوال تقع كيفما اتفق أو بمحض المصادفة، وإنما هي حقوق يجب أن تؤدى أداء يصل بها إلى أصحابها كاملة غير منقوصة، وإلا كان المكلف بأدائها- أباً أو معلماً- آثماً بقدر ما حرم صاحب الحق من حقه أو قصر في أدائه.

فضيلة المنهج النبوي
لقد كان من معالم المنهج النبوي في التربية أن يحمل الناس على الصدق ويبعد بهم عن الكذب. وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم قوله : «إن الرجل ليصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً، وإن الرجل ليكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عن الله كذاباً» وقوله: «إن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار».
وكانت السنة العملية مصداقاً للسنة القولية، فقد قالت امرأة لغلامها: «تعال حتى أعطيك» فقال لها النبي ص : «ما أردت أن تعطيه»؟، قالت «تمراً» قال: «أما إنك لو لم تعطه كتبت عليك كذبة».
وسأله رجل عن خصلة واحدة يتركها من خصال شر كثيرة كانت فيه- كلها حرّمها الإسلام- زاعماً أنه لا يستطيع تركها جملة واحدة، لأنه أسير عاداته. فقال له النبي ص: «دع الكذب» فلم يلبث إلا قليلاً حتى ترك خصال الشر كلها وحسن إسلامه واستقامت سيرته، لأنه كلما أراد فعل شيء من المحرمات ذكر وعده للرسول بعدم الكذب، وقال لنفسه آتي النبي فيسألني فأخبره بما فعلت (يعني من المحرمات) فيدع ما كان قد هم به من الشر.. وهكذا، خصلة خصلة، حتى ترك كل ما كان قد ألفه من الخبائث بفضل تركه الكذب.
ومر بالرسول ص قوم من العرب، وهو وأصحابه في طريقهم إلى غزوة بدر، فسألهم العرب: ممن القوم (يعني من أي قبيلة أنتم) فأجابهم النبي ص: «نحن من ماء» (يريد التورية حتى لا يعرفهم السائلون فيدلوا عليهم عدوهم). وليس في هذا الجواب شيء فإن الناس جميعاً خلقوا من ماء، قال تعالى {هو الذي خلق من الماء بشراً فجعله نسباً وصهراً}.
وأخذاً من مثل هذا الحديث قال بعض العلماء: عجبت لمن يكذب.. في المعاريض (يعني التورية والمجاز وأمثالها) مندوحة (أي مخرج من الكذب ومهرب منه).
والطفل الذي ينشأ في وسط لا يتحرز الكبار فيه من الكذب لا يملك إلا أن ينشأ كذاباً كشأن الذين اقتدى في صغره بهم ونشأ بينهم، فما الذي يهديه إليه كذبه؟ يهديه إلى الغش، والخيانة، وإضاعة الأمانة، والاستهانة بحقوق غيره، وبالواجبات التي يجب عليه أداؤها، ما دام يستطيع أن يتخلص من كل تبعة بكذبة. ثم يفشو ذلك في الناس؛ فيكون ما نراه الآن من عموم البلوى بهذه الأمراض الاجتماعية، في البيت والمدرسة والعلاقات الخاصة والعامة، حتى أصبح الكذب قاعدة، والصدق استثناء، عند أعداد لا تحصى من الناس.
وأقبح ما يكون الكذب من الذين تضعهم مناصبهم أو مقاديرهم في موضع الأسوة والقدوة لغيرهم، أو في موضع التقليد والتشبه من أتباعهم، وبعض هؤلاء ينتسب إلى الإسلام ويعلن انخراطه في دعاته، وهو مع ذلك يتخذ أية وسيلة كانت- ولو تضمنت كذباً صريحاً- لبلوغ ما يظنه غاية سامية أو مطلباً مشروعاً أو حقاً له مضيعاً أو ممنوعاً.
وهؤلاء يسيئون أعظم إساءة إلى الدعوة الإسلامية التي ينتسبون إليها، فإن الناس لا يقولون إنهم أشخاص سيئوا الأخلاق، وإنما يقولون إن دعوة لا تنهى أصحابها عن هذا المنكر القبيح لا خير فيها.
ومن أقبح ما يقع فيه كثير من الناس أن يأمروا أبناءهم صراحة بالكذب حين يكلفونهم قول ما لم يقع، أو إنكار ما كان مما رأوه أو علموه يقيناً، فيستهين الأبناء بهذه الخطيئة الفاضحة، وينشأ ناشئهم وقد تعودها أو أدمنها، فيفقد احترام الناس له وثقتهم به، ويتحمل تبعة ذلك كله آباء وأمهات استهانوا بصغير الأمور وحقيرها فأوقعوا أبناءهم في التخلق بأسوأ الأخلاق وأشدها شراً وضرراً بصاحبه وبمن حوله من الناس.
وقد كان ذوو المكانة المرموقة في الجاهلية يخشون أن ينقل عنهم الناس الكذب ويأنفون من أن يوصفوا به، ففي حديث أبي سفيان- الصحيح- أنه حين سأله هرقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان شديد الحرص حتى لا يؤثر عنه أصحابه- وهم جميعاً يؤمئذ على الكفر والشرك- أنه كذب.
فهل يقبل الناس اليوم أن يكونوا شراً من عرب الجاهلية؟

حظ الرفق
والرفق من معالم المنهج النبوي في التربية، ويغفل عن هذا المعلم كثيرون وتقع هذه الغفلة من أمهات وآباء، وتقع من معلمين يتولون تربية الناشئة في المدارس ومعاهد العلم، وتقع من كثيرين من أرباب المهن والحرف والصناعات الصغيرة الذين لا يقل دورهم في التربية عن دور الآباء والمعلمين، فيحدث من الغفلة عن «الرفق» في التربية شر كبير يستمر أثره السيئ في المجتمع إلى مدى غير محدود.
والرفق أصل إسلامي عظيم، وهو مبدأ عام يدخل في كل شيء ولا يقتصر على التعامل بين الكبار المربين والصغار الذين يربونهم، بل يتسع ليشمل الناس جميعاً. ففي الحديث الصحيح أن رسول ص دخل عليه رهط من اليهود فقالوا «السام عليكم» (والسام هو الموت) قالت عائشة: «ففهمتها فقلت: وعليكم السام واللعنة». فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مهلاً يا عائشة، إن الله يحب الرفق في الأمر كله» قالت عائشة «يا رسول الله، أو لم تسمع ما قالوا؟ قال رسول الله ص: «قد قلت وعليكم». (صحيح البخاري ج 10 ص 449).
وفي صحيح الإمام مسلم رواية عن عائشة أيضاً فيها: «إن الله رفيق يحب الرفق ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف». وعن أبي الدرداء رضي الله عنه أن النبي ص قال «من أعطي حظه من الرفق فقد أعطي حظه من الخير، ومن حرم الرفق فقد حرم حظه من الخير ». (صحيح سنن الترمذي للألباني ج، ص195).
ومن معاني قول الرسولص: «ويعطى على الرفق ما لا يعطى على غيره» أن النتائج التي تتحقق إذا اتبع الإنسان أسلوباً رفيقاً في الوصول إلى غايته أفضل وأكمل من النتائج التي يحققها العنف.
وليس أولى بالرفق من تلك الثمرات الطيبة الرقيقة البريئة التي يتعامل معها المربون أياً كان موقع الواحد منهم ممن يتولى تربيته.
والحاجة إلى الرفق لا تبرز حين نكون فرحين بذكاء أطفالنا وتفوقهم وحسن إدراكهم للأمور أو حسن تصرفهم مع الآخرين. ونحن لا نحتاج إلى تذكير أنفسنا بالرفق وضرورته حين يكون الطفل أو الناشئ ملبياً لما يطلب منه عمله، أو منتهياً عما يطلب منه تركه، أو ناجحاً في دراسته مواظباً على استذكار دروسه.. فالرفق في هذه الحالات ثمرة طبيعية للرضا عن سلوك مطلوب أو تفوق محبوب.
لكننا نحتاج إلى تذكر الرفق حين يبدو على الطفل- وكثيراً ما يحدث هذا - ما نظنه غباء أو تقصيراً في العمل أو الفهم والتحصيل، حينئذ تطير ألباب كثير من المربين فلا يجدون إلا العنف أو التهديد به ليخوفوا الطفل فيوقظوه- في زعمهم- من غفلته أو من غفوة عقله.
وقد تنجح هذه الوسيلة- العقيمة- مع بعض الأطفال في بعض الحالات فيظن المربي أنها هي الوسيلة الناجحة دائماً ومع الجميع.
وينسى هؤلاء المربون- وقد أخذتهم نشوة الإصلاح بالقسوة- أن الأسباب التي تؤدي بالطفل أو البالغ إلى هذا الموقف لا حصر لها ولا عدد ، وأن علاج الغفلة أو التقصير أو سوء السلوك يتنوع ويتعدد بمقدار تنوع الأسباب وتعددها. وأن أخطار اللجوء إلى علاج وحيد في جميع الحالات أكبر ألف مرة من فوائده- إن كانت له فوائد- وأن شأن الذي يصنع هذا شأن الطبيب الجاهل: يعالج من الأدواء المستعصية ومن نزلات البرد بدواء واحد فإما أن يقتل مرضاه جميعاً، وإما أن يقتل الغالبية العظمى منهم!!
إن العنف يحطم الشخصية، ويفقد الإنسان الثقة في نفسه، ويورثه كره الذين يمارسونه معه، ولا ينشئ إلا إنساناً جباناً ولا يستحي، ويطيع رهبة وخوفاً لا رغبة وحباً، وينفذ ما يؤمر به من العقاب لا اقتناعاً بجدوى الصواب، وما أصدق قول العلامة عبدالرحمن بن خلدون في مقدمته (ص 399): «إن من كان مرباه بالعسف والقهر من المتعلمين أو المماليك أو الخدم سطا به القهر وضيق على النفس في انبساطها، وذهب بنشاطها، ودعا إلى الكسل، وحمل على الكذب والخبث، وهو التظاهر بغير ما في ضميره خوفاً من انبساط الأيدي بالقهر عليه، فينبغي للمعلم في متعلمه والوالد في ولده ألا يستبدوا عليهم في التأديب».
وحين نقابل هذا الشخص في الحياة وقد كبر ونما، على هذه الصفة المقيتة المكروهة، نلوم كل شيء وكل أحد، وننسى أننا نكرر ذلك الصنيع كل يوم فنسهم في زيادة عدد هؤلاء في الحياة يفسدونها ويذهبون بكل معنى جميل فيها، بالعنف الذي وضعناه نحن- وهم صغار- في غير موضعه.
وحين تجد من تعرض للتربية بالقسوة والعنف، ونجا من آثارها، فإنك لابد مكتشف أن عوامل أخرى في طفولته أو شبابه واجهت ذلك العنف وتلك القسوة فأذهبت آثارهما أو قللت منها.
ونحن نحتاج إلى التذكير بأصل الرفق وأهميته في التربية حين يبدو على الطفل أو الناشئ مظهر من مظاهر التمرد أو العصيان، وهو أمر كثيراً ما يحدث من الفتيان والفتيات ولاسيما في مرحلة المراهقة، وعندئذ يفوت كثيراً من المربين أن هذا التمرد الظاهر قد يكون في حقيقته مظهراً من مظاهر النمو والرغبة في الاستقلال والإحساس بالقدرة الذاتية، وهو بهذا الاعتبار يحتاج إلى رعاية وعناية وحسن تعهد وسداد توجيه، فيؤتي ثمرة جنية طيبة يكون الآباء والمربوين أسعد الناس بها وأشدهم فخراً.
ولذلك قال سحنون - الفقيه المالكي العلم- لمعلم ولده: «ولا تؤدبه إلا بالمدح ولطيف الكلام، وليس هو ممن يؤدب بالضرب والتعنيف». أما حين نواجه هذه المظاهر التمردية التي قد تكون إيجابية حسنة، بالقهر والكبت، وحمل الشباب على فعل ما نراه نحن صواباً بالقوة والقسوة دون سماع لرأيه أو نظر إلى وجهة نظره، فإننا نسهم بذلك في صناعة خاسرة تقدم للأمة أجيالاً من القردة المدربة، أو الحيوانات الأليفة، وما أتعس أمة هذه صفة رجالها ونسائها!
ونحن نحتاج إلى تذكر الرفق - أكثر ما نحتاج- حين يستبد بنا الغضب ويعصف بخلقنا الضيق لسوء تصرف أتاه الطفل أو الشاب، أو كرره، برغم سبق نهيه عنه، حينئذ لا يجد كثير من الناس إلا يداً غاضبة- أو طائشة- تمتد إلى هذا الناشز تريد تقويمه، وهي لا تدرك أنها بهذا تكسره أو تحطمه، لكنها لا تصلحه ولا تقومه. وهذا الغاضب الذي عصف غضبه بأناته وعقله ينسى أن الأناة في هذا الموضع أفضل ألف مرة من العجلة، وأن التأمل في سبب عوج السلوك، أو التواء التفكير، كفيل بأن يضع اليد الحانية الصادقة المخلصة- في محاولة عون الطفل على التغلب على صعوبات الحياة- يضعها على سبل أخرى للعلاج تلتقي مع الأصل الإسلامي الصحيح: «إن الله يعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف». وتلتقي مع الحديث الصحيح الذي رواه الإمام مسلم رضي الله عنه «إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه». وليس «الزين» و«الشين» هنا بمعناهما الشكلي الذي يثير رضا النظر فحسب، في الأول، ويصرف النظر، استياء، عن غير الجميل، في الثاني، ولكنهما يستعملان هنا بمعنى أعمق وأدق، معنى الجمال الجوهري والقبح المعنوي.. وهما اللذان يفرقان في حكم العقلاء بين شيء مقبول محبب وبين آخر مكروه ينفر الناس منه ويجتنبونه.
وصور الرفق في التربية النبوية العملية لا تكاد تحصى كثرة وتنوعاً، وقد شملت الكبير والصغير والطائع والعاصي، والقريب والبعيد، والعالم والجاهل، والعدو والصديق، والمخطئ في العبادة والمخطئ في العادة، حتى يصدق أن سلوكه ص وسيرته في التربية كانت رفقاً محضاً في المواقف كلها.. وهكذا أنشأ الجيل الرباني الفريد الذي حمل رجاله ونساؤه نور الإسلام وهداه إلى الدنيا كلها.

الرحمة التربوية
و«الرحمة» من معالم التربية النبوية التي تغيب عن بال كثير من المربين، وقلما تجد لها ذكراً في الكتب التي يتداولها طلاب كليات التربية ومعاهدها.
والرحمة من الأخلاق النبوية العظيمة التي كان يحس أثرها في سلوكه ص كل من عرفه :ففي الحديث الصحيح عن مالك بن الحويرث قال «أتينا النبي ص ونحن شببة متقاربون، فأقمنا عنده عشرين ليلة، فظن أنا اشتقنا أهلنا، وسألنا عمن تركنا في أهلنا فأخبرناه، وكان رفيقاً رحيماً، فقال: ارجعوا إلى أهليكم فعلموهم ومروهم، وصلوا كما رأيتموني أصلي، وإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم، ثم ليؤمكم أكبركم». (رواه الإمام البخاري ج 10ص437).
ودخل على النبي ص أعرابي فقال له «تقبلون الصبيان؟ فما نقبلهم!» فقال له ص «أو أملك لك أن نزع الله من قلبك الرحمة؟» (متفق عليه).
وقبل الرسول صلى الله عليه وسلم الحسن بن علي، وعنده الأقرع بن حابس التميمي جالساً، فقال الأقرع (وهو من أشياخ العرب): «إن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم أحداً» فنظر إليه رسول الله صلى عليه وسلم، ثم قال: «من لا يرحم لا يرحم» (متفق عليه).
وروى البخاري ومسلم عن أبي قتادة قال: «خرج علينا النبي ص وأمامة بنت أبي العاص على عاتقه، فصلى، فإذا ركع وضعها، وإذا رفع رفعها». وقال الشراح إن هذا من عظيم رحمته ص بأولاده، فأمامة هي حفيدته بنت زينب رضي الله عنها، وولد الولد ولد.
والسنة القولية والفعلية للنبي ص حافلة بمواقفه وأقواله التي تدل على عظيم شأن «الرحمة» وأهمية رعايتها في التربية.
وليست الرحمة خلقاً جميلاً فيمن تخلق بها فحسب، ولا هي سبيل إلى محبة الناس- بعد رضاء الله- لا غير. ولكن الرحمة وسيلة فعالة من وسائل التربية العملية النافعة التي تترك في نفوس من شبوا عليها أجمل الآثار وأنفعها.
فالذين تربوا على الرحمة هم الذين تراهم وقد كبروا ودودين يألفون ويؤلفون، بشوشين يستقبلك كل واحد منهم ببسمة الوجه وطلاقة المحيا، فتقبل عليه مستبشراً متفائلاً، راغباً لا راهباً، محباً لا كارها.
والذين تربوا على الرحمة هم الذين يصلون الأرحام ولا يقطعونها، فيؤدون بذلك حق ربهم، وحقوق أقاربهم وأوليائهم، لأنهم على مثل ذلك رُبُّوا ونُشّئوا.
وهؤلاء هم الذين لا يقسون على صديق ولا رفيق، بل يلتمسون للناس الأعذار فيما يأتون ويدعون، ويسلكون سبل الإصلاح والوفاء قبل أن يفكروا في سلوك سبيل القطيعة والجفاء.
والذين تربوا على الرحمة تراهم إذا كانوا رؤساء أو ذوي سلطة لا يشعر مرؤوسوهم إلا أنهم منهم، يحبون لهم ما يحبون لأنفسهم، فتجدهم أكثر الناس نجاحاً في أعمالهم، وأعظمهم أثراً في تقدم مهنهم، وأحسنهم تأثيراً فيمن يتعاملون معهم.
والذين تربوا على الرحمة يكونون في العادة ذوي حس مرهف وذوق سليم، وفكر مستقيم، ونفوس هادئة وادعة، وذلك كله عون لصاحبه على مصائب الدهر ونوائب الأيام، يجعله يستشعر قرب رحمة الله منه، ويرجو بها من الخير ما تطمئن إليه نفسه مهما تكن المحن طويلة أو قاسية.
والذين تربوا على الرحمة تراهم- حين يدعوهم الداعي- أكثر الناس سخاء، وأعظمهم عطاء، فتعرف أنهم من الذين وقوا شح أنفسهم {ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون}. وتجدهم يؤثرون على أنفسهم، ولو كان بهم خصاصة، ويرون لغيرهم من المحتاجين حقاً فيما أتاهم الله من نعمة، فلا يستأثرون بما زاد على حاجتهم، بل ويجودون- كثيراً- ببعض ما هم في حاجة إليه براً بالآخرين وصلة للأرحام، وأداء لحقوق الصديق والجار.. وهم لا يرون إلا أنهم يؤدون حقاً إلى أصحابه أو يؤدون تبعات واجبة، أوجبتها عليهم نشأتهم على الود والرحمة، ونفرتهم المغروسة فيهم منذ نعومة أظفارهم من القسوة والجفوة.
والرحمة لا تنزع إلا من شقي النفس، قليل الحظ من الخير، ولذلك قال رسول الله ص فيما يرويه عبدالله بن مسعود «ارحم من في الأرض، يرحمك من في السماء». وقال جرير بن عبدالله إن رسول الله ص قال: «إنما يرحم الله من عباده الرحماء». (صحيح الجامع الصغير للألباني، الحديث رقم 894 ورقم (238).
والقائمون على تربية الآخرين، ولاسيما الآباء والمربون في المدارس، والمعاهد بأنواعها ودرجاتها، مطالبون بأن يفقهوا دور الرحمة في التربية، وأثرها في صناعة النفوس البشرية، وخطر الجفاء والقسوة- وهو خطر مدمر- على الذين يحرمون من لمسات الرحمة والمودة بين الحين والحين.
والمربي يرحم بقدر ما يحب، وهو لا يستطيع إذا لم يكن محباً لمن هم في ولايته أن ينفعهم بشيء قط، فإن نفوس البشر شديدة الحساسية، وهي تستقبل بمثل الروح التي يكون بها الإرسال، فما صدر عن نفس محبة راعية وصل إلى النفوس المستقبلة سريعاً مؤثراً، نافعاً، وما صدر عن نفس مبغضة، أو مآلّة، أو ضائقة بما تصنع أو غير مكترثة به، فقد لا يصل أصلاً، وقد يصل فلا يؤثر بشيء نافع، وقد يؤثر تأثيراً ضاراً يندم عليه من تسبب فيه حين لا ينفع الندم، ويسأل عنه يوم القيامة حين يسأل كل راع عن رعيته فجزى بالإحسان أحسن مما فعل، ويتمنى ألا يسأل عن الإساءة ولا يجزى عليها.
والمجتمع كل مسؤول عن شيوع روح الرحمة بين أفراده وجماعاته فإن المؤمنين الذين يتواصون «بالصبر وبالمرحمة» يكونون يوم القيامة من «أصحاب الميمنة» والآخرون هم «أصحاب المشئمة».

عدم غمط الناس حقوقهم
والمسؤولية عن التربية الصالحة وإن بدأت من الآباء والمعلمين والمربين المباشرين، فإنها تصل إلى مؤسسات المجتمع كلها، وإلى ذوي النفوذ والسلطان جميعاً، لأن هؤلاء هم مصدر التأثير الأكبر في الناس، وهم موضع الأسوة والقدوة من العامة، فضلاً عن تأثيرهم المباشر فيمن يليهم، وهو تأثير ينتقل بسرعة عجيبة حتى يصل إلى آحاد الناس، ولذلك صدقت التجربة قول القائل: «الناس على دين ملوكهم». ولذلك- أيضاً- قال الرسول ص «الإمام (الحاكم) الذي على الناس راع وهو مسؤول عن رعيته».
ومن معالم المنهج النبوي في التربية إعطاء كل ذي حق حقه صغيراً كان أم كبيراً. كان عند رسول الله ص بعض أشياخ العرب، وكان يجلس عن يمينه غلام حديث السن، فقدم لبن إلى الضيوف فاستأذن الرسول ص الغلام قائلاً: «أتأذن لي أن أعطي هؤلاء»؟ فقال الغلام: «والله يا رسول الله، لا أوثر بنصيبي منك أحداً» قال الراوي الصحابي سهل بن سعد رضي عنه «فتلَّه رسول الله في يده»(يعني دفعه إلى يده دفعاً كأنه يعاقبه على صنيعه) (رواه الإمام البخاري في صحيحه ج.1ص86).
وقد يمر القارئ على هذا الحديث مروراً سريعاً لا يقف عنده، فما لنا ولشربة لبن قدمت إلى بعض ضيوف النبي علىه الصلاة والسلام؟ ولكن المتأمل يرى في هذا الخبر أموراً بالغة الأهمية، في تربية الرجال وتربية الأمم.
فأول ما نراه في هذا الحديث أن الرسول ص حفظ للغلام الجالس عن يمينه حقه في الشرب أولاً، لم يمنعه من ذلك صغر سنه، ولا مكانة الآخرين الذين جلسوا حوله، إذ الحق أولى أن يعطى لصاحبه، دون نظر إلى مكانة صاحب الحق، أو مكانة من يتأذى بإعطاء كل ذي حق حقه.
والأمر الثاني، أن في هذا التصرف تربية للغلام أن يعرف ماله من حق، وأن لا يقبل غمط حقه مهما ترتب على ذلك من إكرام من هم أسن منه، وفيه تربية لهؤلاء الكبار أن لا يظنوا أعمارهم تفيدهم حقاً ليس لهم.
والأمر الثالث، في هذا الحديث، أن شباب هذه الأمة كانوا ينشؤون على خلق الجرأة والشجاعة منذ نعومة أظفارهم. فها هو الغلام يأبي أن يأذن في حق له، رغبة منه أن يكون تالياً لرسول الله في الشرب من إناء اللبن، لا يخيفه من ذلك ولا يرهبه أن الذين أريد تقديمهم عليه هم من كبار العرب وشيوخهم، وهم ضيوف رسول اللهص . وهو يتكلم في المجلس غير هياب ولا مرتبك. والرسول ص لا ينهاه ولا يزجره، بل يعطيه الإناء ليشرب قبل من كان يريد أن يقدمه إليهم! فأين ذلك من تربيتنا أولادنا على الرهبة والرجفة من كل كبير؟، وعلى معاملتنا لهم كما لو كانوا لا يفقهون ولا يعقلون! فإذا قال الكبار شيئاً- مهما كان- وجب على الصغار الطاعة والتنفيذ بلا مناقشة ولا مراجعة، وأحياناً كثيرة بلا فهم لحكمة ما يعملون ونتيجته؟
إن هؤلاء الذين رباهم رسول الله ص على الجرأة والشجاعة والرجولة في مجالسه وحروبه وأسفاره، هم الذين بلغوا الإسلام إلى الدنيا وقادوها به، وهم الذين كان عمر بن الخطاب- وهو من هو- إذا حزبه أمر يفزع إليهم- إلى الفتيان- يبتغي حدة عقولهم.
والنعم لا تدوم، وهي لا تدوم للأفراد، ولا تدوم للأمم. وكثرة النعم تلد الرفاهية، والأمم المرفهة المنعمة لا تعرف الجد إلا قليلاً، ولا تصمد لصروف الدهر وتغير الأيام إلا نادراً.
وكان النبي ص يربي أصحابه على الرجولة والخشونة واحتمال الشدائد، وينهى عن الإغراق في الرفاهية والترف، والركون إلى الراحة والدعة، إدراكاً لآثارها الضارة بالأفراد وبالجماعة على السواء.
والناظر في أساليب التربية النبوية يجد أدلة كثيرة على ذلك، فحين ينهى الرسول ص عن لبس الذهب والحرير للرجال، وحين ينهى عن التشبه بالنساء في الرقة والتلطف والملبس وغير ذلك، وحين ينهى عن جر الإنسان ثوبه خيلاء ويحذر من يفعل ذلك تحذيراً شديداً: «لا ينظر الله إلى من جر ثوبه خيلاء»، وحين يمدح من أمسى كالاً من عمل يده، وينظر إلى رجل قد اخشوشنت يده من العمل فيقول «هذه يد يحبها الله ورسوله» ..حين يقول رسول الله ص ذلك كله ويفعله، فإنه في الواقع يربي الأمة على الأخلاق النافعة الصالحة، التي تستدام بها النعم، ويمكن لأصحابها- عند فقدها- أن يصبروا على الحرمان وأن يجاهدوا لاستعادة ما فقدوه وتعويضه.
وليست هذه الأحاديث- وأمثالها كثير- مجرد نصوص تدعو إلى التكلف البارد والورع المصطنع اللذين يقع فيهما بعض المنتسبين إلى الإسلام ودعوته، عن جهل وعدم فهم، أو عن بساطة وحسن نية، مما يجعل كثيراً من الناس ينفرون من دعاة لا يهتمون في دعوتهم إلا ببعض مظاهر الملبس والمأكل والمظهر. بل إن هذه الأحاديث وأمثالها لو قدمت إلى الناس على وجهها الصحيح من حيث هي موجهات لسلوك الأمة إلى ما ينفعها وموجهات للمربين والمربيات إلى المعاني التي يجب أن تنشأ الأجيال عليها، وموجهات إلى واضعي المناهج والبرامج والخطط الدراسية، بل والخطط الرياضية والتربوية والسياسية إلى الصورة التي يجب أن يكون المسلم عليها: من رجولة بلا جفاء، وخشونة بلا غلظة، واحتمال للمكاره وصبر عليها، وأدب بلا ميوعة ولا استهتار، وقصد في استعمال ما أنعم الله به عليه مع إعطاء كل ذي حق حقه، لو قدمت على هذا النحو، لكان لها أبلغ الأثر في تنشئة الأجيال القادمة على نحو أصح وأسلم وأنفع مما نشأت عليه أجيال سابقة.
وليس معنى التربية على الرجول والخشونة والجرأة والشجاعة أن يكون الإنسان جافياً لا يحب، وقاسياً لا يلين. بل الصحيح أن المسلم الذي أثر الإسلام فيه هو شخص يحب الناس لقاءه، ويأنسون لحديثه ويطمئنون إلى صدق نصحه وإخلاص وده، وهم لذلك يسمعون له إذا قال، ويستجيبون له إذا دعا، ويأتمنونه على أخص شؤونهم وأدقها، ويلتفون حوله إذا كان حاضراً ويفتقدونه ويحفظون غيبته حين يغيب.
وهناك آخر يبغض الناس ذكره فضلاً عن رؤيته، ويرونه منفراً غليظاً مستكبراً، فليس له من ود الناس نصيب. فهو مكروه إذا حضر، محمود فقده إذا غاب. وما ذلك إلا لسوء سيرته فيمن يتصل به، وجفوته لمن هو أهل لصلته ووده، وتكبره على أقرانه ونظرائه. ولعمري إن هذه لأخلاق سوء جديرة بأن تنزل صاحبها منزلاً مذموماً عند الله وعند الناس.
والمربون، بما يقولون ويفعلون، يصنعون كثيراً مما يؤثر في أخلاق الأطفال والشباب، ويطبعهم في رجولتهم بأحد الطبعين، ويصبغهم بإحدى الصبغتين، فإن كانت الأولى كان لهم في كل خير يأتيه المرء أجر، وإن كانت الثانية كان عليهم، بقدر ما لم يحسنوا التوجيه، من كل خطيئة وزر.
والقدوة المستفادة من خُلق رسول الله ص لا تنقضي، وقد قال الله تعالى في كتابه الكريم {ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك} وأمَرَهُ من فوق سبع سماوات بما يزيد من حب أصحابه وأتباعه له، وأنسهم به، فقال له: {واخفض جناحك للمؤمنين}. والمودة يلقى بها الإنسان أخاه فيظهرها له، أو يسرها له في نفسه فيذكره بالخير ويتمناه له، فرع من المحبة في ذات الله تعالى، التي تجمع المؤمنين وتميزهم عمن سواهم ممن لا تجمعهم إلا المنافع الدنيوية أو الشهوات والنزوات الزائلة الفانية.
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوصي أصحابه بذلك، فقال لأبي ذر رضي الله عنه: «لا تحقرن من المعروف شيئاً، ولو أن تلقى أخاك بوجه طليق». وأوصى أصحابه بالحرص على الكلام الطيب الذي جعله سبيلاً للنجاة من النار حين قال: «اتقوا النار ولو بشق تمرة، فمن لم يجد فبكلمة طيبة». وجعل الكلمة الطيبة في أي مجال كانت مما يثاب المرء عليه ويؤجر به: «الكلمة الطيبة صدقة».

رفق المعلم
وخير مثال لتجسيد رؤية المنهج التربوي النبوي هو الحديث الذي رواه الإمام مسلم، في صحيحه، عن معاوية بن الحكم السلمي قال: «بينا أنا أصلي مع رسول الله ص إذ عطس رجل من القوم، فقلت: يرحمك الله، فرماني القوم بأبصارهم، فقلت: واثكل أمياه ما شأنكم تنظرون إليَّ؟! فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فلما رأيتهم يصمتونني (غضبت)، لكني سكت، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبأبي هو وأمي، ما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه، فوالله ما كهرني (القهر والنهر والكهر بمعنى واحد) ولا ضربني ولا شتمني، (ولكن دعاني) ثم قال: «إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن» - أو كما قال ص- قلت: يا رسول الله إني حديث بجاهلية، وقد جاء الله بالإسلام، وإن منا رجالاً يتطيرون، قال: «ذاك شيء يجدونه في صدورهم فلا يصدنهم»، ،: قلت: ومنا رجال يَخطّون، قال: «كان نبي من الأنبياء يَخّطّ فمن وافق خطَّه فذاك» قال: وكانت لي جارية ترعى غنماً لي قبل أحد والجَوَّانية (موضعان شمال المدينة) فاطلعت ذات يوم فإذا الذيب قد ذهب بشاة من غنمها، وأنا رجل من بني آدم آسف كما يأسفون، لكني صككتها صكة (أي لطمها بيده)، فأتيت رسول الله ص فعظم ذلك عليَّ، قلت: يا رسول الله أفلا أعتقها؟ قال: «ائتني بها» فأتيته بها فقال لها: «أين الله»؟ قالت في السماء، قال: «من أنا»؟ قالت: أنت رسول الله، قال: «أعتقها فإنها مؤمنة» (صحيح مسلم ج2 ص70-71).
فهل بعد هذا الرفق في التربية رفق، وهل يبقى فينا بعده من يقول إن التربية لا تتم إلا بالقسوة والغلظة؟ وهل يصدّق أحد أن العصا الموجعة أفعل في النفس من الكلمة الهادية الوادة؟ أما أنا: فاللهم لا.

مصادر هذه الورقة
1- القرآن الكريم.
2- صحيح البخاري، مع شرحه فتح الباري، ط الرياض. دون تاريخ.
3- صحيح مسلم، ط أستنبول. دون تاريخ.
4- جامع الترمذي، ط الأستاذ أحمد شاكر.
5- يوسف القرضاوي، المنتقى من الترغيب والترهيب للمنذري، ط دار الوفاء 1994.
6- حسن العشماوي، هكذا نربي أولادنا، دار الفتح، بيروت، دون تاريخ.
7- صحيح الجامع الصغير للألباني، ط المكتب الإسلامي دون تاريخ.
8- ربيع صادق دحلان، الاتجاهات المعاصرة في الإدارة العامة، جدة 1998م.
9- أحمد المهدي عبدالحليم، إعادة بناء التعليم، ط دار الشروق بالقاهرة، 1990م.
10- الدكتور يوسف عبدالمعطي، تربية المسلم على هذه الشريعة، المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة، الرباط، 1995م.
11- أحمد المهدي عبدالحليم، التحديات التربوية للأمة العربية، دار الشروق 1999م.
12- محمد سليم العوا، الفقه الإسلامي في طريق التجديد، ط2 المكتب الإسلامي، بيروت 1998م.
13- عبد الرحمن بن خلدون، المقدمة، ط بيروت دون تاريخ.
14- أحمد فؤاد الأهواني، التربية في الإسلام، دار المعارف، 1968م.
15- أحمد السيد فرج، مشكلات في طريق التربية الإسلامية، دار الوفاء 1992.
16- عبد الرحمن الباني، مدخل إلى التربية في ضوء الإسلام، المكتب الإسلامي، 1983م.
17- محمد جمال الدين محفوظ، تربية المراهق في المدرسة الإسلامية، الهيئة العامة للمكتبات، 1982م.
18- سلوى محمد العوا، مذكرات معلمة، دار الشروق بالقاهرة، 2000م.
نشر في مجلة (المعرفة) عدد (57) بتاريخ (ذوالحجة 1420هـ -مارس 2000م)

 : http://www.bab.com