الأندلسيون والتعليم

 د. محمد  عبدالحميد عيسى

مما لاشك فيه أن الأمة الإسلامية في الأندلس قد بلغت شأواً عظيماً في مجال الحضارة الإنسانية والرقي، وأنها ساهمت في نقل الحضارة الإسلامية الرائعة إلى أوروبا، وأنها ضربت بسهم وافر في مجالات المعرفة بصورة عامة.
ويرجع الفضل بعد الله سبحانه وتعالى في ذلك إلى نظامها التعليمي وإلى اهتمام الأندلسيين بطلب العلم، وتشجيع الحكام للعلماء والمعلمين والمتعلمين.
أقام الأندلسيون نظامهم التعليمي على قاعدتين أساسيتين هما:
أولاً: أن يعرف الطفل دينه معرفة سليمة، وأن يحفظ القرآن أو ما أمكنه منه، حتى إذا شب بعد ذلك وتخصص في أي مجال من مجالات العلوم، يظل مسلماً صحيح الإيمان، عارفاً على الأقل بالأمور الأساسية التي تحفظه من الزلل أو تبعده عن الخطأ.
ثانياً: أن يتعلم الطفل لغته بطريقة سديدة، بحيث إذا شب، ونما وأصبح عالماً في أي من مجالات العلم فإنه لا يلحن ولا يخطىء في اللغة بقدر الإمكان.
وعلى هاتين القاعدتين الأساسيتين كان سهم الأندلسيين وافراً في مجال اللغة والأدب، كما كان سهمهم عظيماً في الدراسات الدينية.
بدأ الأندلسيون تعليم صغارهم في سن باكرة، حيث إن التأديب في الصغر يعطي فرصة النبوغ الباكر، كما أن الصغير أسلس قيادة وأحسن مواتاة
. قال ابن الجزار: لقد أمرنا أن يؤدب الصبيان صغاراً، لأنهم ليس لهم عادات تصرفهم لما يؤمرون به من المذاهب الجميلة، والأفعال الحميدة، والطرائق المثلى، فمن عود ابنه الأدب والأفعال الحميدة والمذاهب الجميلة في الصغر، حاز بذلك الفضيلة، ونال المحبة والكرامة، وبلغ غاية السعادة، ومن ترك فعل ذلك، وتخلى عن العناية به، أداه ذلك إلى عظيم النقص والخساسة، ولعله يعرف فضيلة ذلك في وقت لا يمكنه تلافيه.
أما المنهج التعليمي في هذه المرحلة، فإنه وإن تشابه في معظم أنحاء العالم الإسلامي إلا أن الأندلسيين قد تميزوا بدقة نظامهم وحسنه حتى قال ابن خلدون:
أما أهل الأندلس فمذهبهم تعليم القرآن والكتاب من حيث هو، وهذا هو الذي يراعونه في التعليم، إلا أنه لما كان القرآن أصل ذلك ورأسه ومنبع الدين والعلوم جعلوه أصلاً في التعليم، فلا يقتصرون لذلك عليه فقط بل يخلطون في تعليمهم للولدان، رواية الشعر في الغالب، والترسل وأخذهم بقوانين العربية وحفظها، وتجويد الخط والكتاب.
ولا تختص عنايتهم في التعليم بالقرآن دون هذه، بل عنايتهم فيه بالخط أكثر من جميعها. إلى أن يخرج الولد من عمر البلوغ إلى الشبيبة وقد شدا بعض الشيء في العربية والشعر والبصر بهما، وبرز في الخط والكتاب، وتعلق بأذيال من العلم على الجملة... وفي هذا كفاية لمن أرشده الله تعالى واستعداد إذا وجد المعلم.
ولقد شدد العالم الأندلسي الكبير أبوبكر بن العربي -رحمه الله- على ضرورة الاهتمام بتعلم اللغة العربية، لأن الفساد قد تطرق إلى الألسن ونفذ اللحن إلى اللغة، وعميت الحقائق عن بعض القلوب، ومن ثم كان الاهتمام بتكوين الجملة، وطرائق دلالاتها على ما تود التعبير عنه، والاهتمام بتعليم الألفاظ ومعانيها، وأكد -ابن العربي- ضرورة أن يكون التدريس باللغة العربية الفصحي، منبهاً أنه: ينبغي أن ينشأ الطفل على تعلم العربية، ومقاطع الكلام، ويحفظ أشعار العرب وأمثالها.
ولا يقتصر اهتمام ابن العربي على جانب اللغة، وما ينشأ عنها من آداب، بل إنه لاينسى الجانب العلمي، وما يرتبط بالعلوم الأخرى من تقدم، جاعلاً الحساب النموذج لذلك. فيبين قيمة تعليم الحساب، وأهميته، لأن الحساب فيه فائدة نظرية هي شحذ الذهن، وتمرين الفهم، وفائدة عملية ترجع إلى منفعته في القوانين الفقهية من قسمة التركات والمساحات، وما إليها من مسائل في الحياة العملية.
ينتقل الصبي بعد ذلك إلى الدراسة في المسجد، وهناك يتلقى بشيوخه ومعلميه، وعليه في هذه الحالة أن يدقق في اختيار الشيخ الذي سيتقدم للدراسة على يديه، وعلى الآباء أن يساعدوه في ذلك، فيختارون له من يثقون في خلقه أولاً وفي علمه ثانياً، ولم يكن في هذه السن، التي تجاوزت سن الكتاب منهج تعليمي محدد يسير عليه الطلاب والمعلمون، إنما كان هناك شيوخ ومعلمون في كل فن من فنون العلم، ومن ذلك المتخصصون في العلوم الدينية بتفرعاتها الكثيرة، وعلوم العربية بأقسامها الواسعة والكبيرة، بالإضافة إلى معلمي الحساب والرياضيات، أو البارعين في المجالات العلمية الأخرى. وكثيراً ما ركز الطلاب في سنوات طلبهم الأولى على علوم الدين وعلوم اللغة ثم بعد ذلك - حين نضجهم العلمي - يتجهون إلى التخصص، وتظل مرحلة الطلب هذه إلى فترة غير محددة ولا تنتهي تقريباً إلا حينما يجلس الشاب مجلس المعلمين، أو أن يتولى وظيفة عامة، وهناك من كان يواصل الطلب في الوقت الذي كان يدرس فيه في أوقات أخرى.
ولقد ختم كثير من الطلاب الأندلسيين جهودهم في مجال طلب العلم بالقيام برحلة علمية يستمعون فيها إلى علماء ومشايخ غير الذين تعلموا على أيديهم في مواطنهم الأصلية.
وكان هناك نوعان من الرحلة: الأولى منهما إلى داخل الأندلس، فينتقل الطالب من قريته إلى المدينة القريبة ثم إلى المدن الأخرى تجذبه إليها شهرة معلميها. وكانت قرطبة هي العاصمة العلمية التي يتطلع الجميع إلى الالتحاق بمعاهدها أو سماع شيوخها، دون أن يعني ذلك عدم تمتع العواصم الأندلسية الأخرى بمكانة سامقة، فهناك إشبيلية وبلنسية وسرقسطة وبطليوس وأشبونة وغرناطة.
أما الرحلة الثانية فقد كانت إلى خارج الأندلس، حيث لم يكتف الكثيرون من طلاب الأندلس بما كان في بلادهم من مستوى علمي راق، فاتجهوا إلى الدراسة على شيوخ فاس في المغرب ووهران في الجزائر، والقيروان في تونس، والفسطاط في مصر، ومكة والمدينة في الحجاز، ودمشق في الشام، وبغداد في العراق، بل واصل بعضهم الرحلة إلى بلاد فارس وما وراء النهر حيث نيسابور وبخارى وطشقند، وهي أبرز الأمكنة التعليمية في العالم الإسلامي، ومقر العلماء والمدرسين الذين يرحل الطلاب إليهم من كل مكان.
ولقد اعتقد الأندلسيون أنه كلما طالت الرحلة، وزاد عدد الشيوخ الذين يلتقي بهم طالب العلم، كلما زاد ذلك في مكانة هذا الطالب عند عودته إلى بلاده.
لقد آتى هذا النظام التعليمي ثماره في بلاد الأندلس، فنبغ فيها عدد لا يحصى من العلماء والفقهاء والشيوخ، أشادت بعلمهم كافة مصادرنا الفقهية والأدبية والتاريخية، وتكفي الإشارة إلى بقي بن مخلد، والقرطبي، وابن عطية في مجال التفسير أما في القراءات، فقد أشار الإمام الذهبي في كتابه «معرفة القراء الكبار» إلى 127 قارئاً مشهوراً من الأندلسيين، وفي الفقه كان ابن حبيب صاحب «الواضحة» والعتبي مؤلف «العتبية» وغيرهما مما لايحصى عدداً من علماء المالكية في الأندلس. وفي علم الحديث كان لدينا بقي بن مخلد، وابن عبدالبر القرطبي.
أما في مجالات اللغة العربية وآدابها فقد كان بستان الأندلس الزاهر، وفيه نبغ الآلاف في النحو والأدب والبلاغة وغير ذلك، وتكفي الإشارة إلى أبي بكر الزبيدي ومن بعده «ابن سيدة» وابن الزبير والإقليلي، وأبي علي القالي وصاعد البغدادي الذي لم يحصل على الشهرة إلا في الأندلس.
أما في مجال العلوم العقلية فتكفي شهادة المؤرخ العالمي سارتون الذي قال إن الترجمات التي نقلت من العربية كانت هي أساس التعليم في أوروبا خلال القرنين الخامس عشر والسادس عشر، كما قال أحد المستشرقين الأسبان: لقد غدت الأندلـس فنار العلوم في العالم في العصور الوسطى.
نشر في مجلة (المعرفة) عدد (41) بتاريخ (شعبان 1419هـ -ديسمبر 1998م)

 

: http://www.bab.com